أوروبا بين وهم الردع وواقع “صناعة العدو”: سباق تسلّح يعيد القارة إلى ذاكرة القرن العشرين

حنان الفاتحي

لجيلٍ كاملٍ في أوروبا لم يعرف الحروب إلا من خلال كتب التاريخ، تبدو العبارات المتداولة اليوم ، من قبيل “أوروبا تتسلّح” أو “الاستعداد لحرب شديدة العنف”، كأنها رجع صدى لصفحات مظلمة من القرن العشرين. غير أن التوتر الراهن لا يختزل فقط في سباق تسلّح متجدد، بل يكشف أيضاً عن خطاب سياسي يعيد إنتاج آليات قديمة لطالما استخدمتها الأنظمة حين تعجز عن مواجهة أزماتها الداخلية: صناعة العدو.

فبدلاً من مواجهة تحديات البطالة، الفقر، العنصرية الصاعدة، اليمين المتطرف، أو الأزمات الاقتصادية التي تخنق دولاً مثل فرنسا وبريطانيا، يجد القادة الأوروبيون في “التهديد الروسي” شماعة مريحة، وربما آخر وسيلة لصرف الأنظار عن الأزمات الحقيقية التي تهدد مجتمعاتهم من الداخل.

تحوّل استراتيجي غير مسبوق منذ نهاية الحرب الباردة

تشهد أوروبا اليوم أكبر إعادة تشكيل لمشهدها الأمني منذ سقوط جدار برلين. ففي مارس 2024، وضعت السويد حدّاً لحياد عسكري دام أكثر من قرنين لتنضم إلى حلف شمال الأطلسي. وعلى خلاف تاريخها الذي جعل من عدم الانحياز جوهر سياستها الأمنية، قررت ستوكهولم تغيير موقعها الجيوسياسي تحت تأثير الحرب الروسية–الأوكرانية، ومن قناعة مفادها أنها قد تكون “الهدف التالي” لموسكو.

غير أنّ هذه القناعة نفسها تتجاهل حقيقة تاريخية واضحة: الروس، منذ عهد غورباتشوف، حذّروا من أن وصول الناتو إلى حدودهم—خاصة أوكرانيا—يمثل خطاً أحمر، وهو تحذير أدركه قادة الحلف جيداً قبل سنوات طويلة من اندلاع الحرب.

التحول السويدي ترافق مع استثمارات دفاعية جديدة وقدرة عسكرية معتبرة في بحر البلطيق، ما جعلها جزءاً من منظومة الردع الأطلسية… وربما أيضاً جزءاً من سباق تسلّح لا أحد يعرف مآلاته.

ألمانيا: من “ثقافة ما بعد الحرب” إلى زمن الـ Zeitenwende

لا أقلّ رمزية من التحول الألماني. ففي خطاب تاريخي عام 2022، أعلن المستشار أولاف شولتز دخول ألمانيا “زمنًا جديداً”—Zeitenwende—مانحاً الجيش الألماني صندوقاً خاصاً بـ100 مليار يورو، مع الالتزام ببلوغ عتبة الناتو للإنفاق الدفاعي بنسبة 2% من الناتج المحلي الإجمالي.

هذا التحول ليس تقنياً ولا مالياً فقط؛ هو قطيعة ثقافية مع كل ما أسس له الدستور الألماني بعد 1945. فقد بُنيت الهوية السياسية الألمانية على رفض العسكرة، وعلى استخدام القوة العسكرية باعتبارها خياراً استثنائياً. لكن اليوم، يتحدث وزير الدفاع الألماني عن عودة وشيكة للتجنيد الإجباري، في مفارقة تكشف مدى تغير المزاج الاستراتيجي في برلين.

فرنسا… وتاريخ لا يسمح بالانسحاب

على خلاف ألمانيا وشمال أوروبا، لم تنخرط فرنسا كلياً في موجة “نزع السلاح” بعد الحرب الباردة. احتفظت بترسانتها النووية، وبثقافة إستراتيجية تعتبر القوة العسكرية أداة سياسية مشروعة.

ورغم ذلك، فقد بات الخطاب الفرنسي أكثر مباشرة: الجنرال تييري بوركهارد يعلن جهاراً ضرورة الاستعداد لـ“حرب عالية الشدة”، والرئيس ماكرون لا يستبعد العودة إلى التجنيد الإجباري بعدما دعا لتجنيد تطوعي موسّع.

المفارقة أن هذا الخطاب يتزامن مع أزمة اجتماعية واقتصادية داخلية خانقة، ما يعزّز فرضية توظيف “العدو الخارجي” كأداة تعبئة سياسية.

سباق تسلّح أم سباق نحو المجهول؟

نظرية الردع تقول إن القوة تمنع الحرب. لكن الواقع الأوروبي اليوم يعيد طرح سؤال قديم ، هل يؤدي تعزيز القدرات الدفاعية إلى زيادة الأمن… أم إلى صناعة معضلة أمنية جديدة؟ من منظور موسكو، يبرّر التوسع الأطلسي ، والدعم العسكري الضخم لأوكرانيا ، سياساتها الهجومية.

صادق الروس أم كذبوا، فالحقيقة أن ديناميكية التسلّح المتبادل لطالما كانت وصفة جاهزة لخسارة الجميع.

يزيد المشهد هشاشة شكوك الأوروبيين في الالتزام الأميركي طويل الأمد. فإذا انكفأت واشنطن نحو آسيا، أو تراجع نفوذها داخل الناتو، ستجد القارة الأوروبية نفسها مجبرة على الدفاع عن نفسها… وهو سيناريو لم تختبره منذ 1945.

عندما تخلّت أوروبا عن فرصة دمج روسيا… ودفع الجميع الثمن ، قد تبدو العودة إلى أصل الأزمة ضرورية. فمنذ منتصف التسعينيات، تجاهل الأوروبيون تعزيز رؤية تقوم على دمج روسيا في النظام الأمني القاري، وفضّلوا عوضاً عن ذلك عزلها ومحاصرتها عبر توسيع الحلف شرقاً.

قد يعتبر البعض أن هذا لا يبرّر الحرب الحالية، لكن السؤال يبقى مشروعاً:

كيف لم تتوقع أوروبا ردّ فعل موسكو؟

مستقبل غامض… وسيرٌ كالمنوّمين نحو حرب جديدة؟ لا أحد يستطيع اليوم التنبؤ بما إذا كان هذا الاندفاع نحو التسلّح سيعزّز الاستقرار أم سيقود إلى مواجهة كبرى. فالعوامل الحاسمة تتجاوز القارة:

  • قرارات روسيا
  • مستقبل السياسة الأميركية
  • مآلات الحرب في أوكرانيا

لكن الثابت أن أوروبا تواجه من جديد أسئلة الحرب والسلام التي كانت تأمل دفنها في القرن العشرين.

وفي النهاية، يبقى السؤال الأكثر إلحاحاً:

هل تُترجم هذه الاستعدادات إلى سلام مستدام… أم أن أوروبا تسير، مثل المسرنمين، نحو حرب عالمية ثالثة لا يريدها أحد، لكنها قد تشتعل بسبب أخطاء الجميع؟

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

This site is protected by wp-copyrightpro.com