المينورسو خارج تندوف… والعالَم داخل مرحلة جديدة

ماجدة أردان

في خطوة تمثل واحدًا من أكثر التحولات دلالة في مسار النزاع حول الصحراء المغربية، أقدمت الأمم المتحدة على وقف خدمة المينورسو داخل مخيمات تندوف، حيث تتمركز قيادة جبهة البوليساريو وميليشياتها. هذا القرار لا يمكن قراءته إلا باعتباره إعلانًا واضحًا عن تغيير في قواعد اللعبة، ورسالة قوية مفادها أن تندوف لم تعد مجالًا تحتاج فيه المنظمة الأممية إلى مراقبة أو انتشار عسكري، وأن سكان هذه المخيمات مدعوون، موضوعيًا وسياسيًا، إلى إعادة توجيه بوصلتهم نحو حلٍّ يتجاوز مرحلة الجمود.

هذا التحول يتعزز بصدور الترجمة الرسمية الجديدة لقرار مجلس الأمن، والتي حسمت الجدل القديم حول الأطراف المعنية بالنزاع، فأعادت الجزائر إلى الواجهة باعتبارها طرفًا أصيلًا في الملف، وليس مجرد “دولة مجاورة”. هذا الحسم لا يقطع فقط مع ثلاثين عامًا من محاولات تسويق النزاع كخلاف بين “طرفين”، بل يضع المبعوث الأممي ستيفان ديميستورا أمام وثيقة مُحكمة، تحدد الأطراف، والسياق، والإطار الزمني، وتمنحه تفويضًا واضحًا لإطلاق مفاوضات على قاعدة الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية.

في مقابل هذا التحول، تواصل الجزائر ترديد خطاب ما قبل 2007، تاريخ دخول مبادرة الحكم الذاتي إلى دائرة البحث الدولي كحلٍّ واقعي قابل للتطبيق. غير أن هذا الخطاب يبدو اليوم خارج الزمن السياسي؛ فالمشهد الإقليمي والدولي تغيّر، وتحوّل النزاع إلى عنصر شاذ في بيئة دولية تموج بأزمات كبرى، من شرق أوروبا إلى الشرق الأوسط. وفي عالم تتغير أولوياته بسرعة، لم يعد مقبولًا أن يستمر بؤرة توتر عمرها نصف قرن في منطقة حسّاسة تمتد تأثيراتها إلى المتوسط وشمال إفريقيا.

المغرب بدوره لم يقف عند حدود الثقة في المسار الأممي، بل بادر إلى تحيين مقترحه للحكم الذاتي بعد 18 سنة على تقديمه. خطوة جاءت بتوجيه ملكي، ومن خلال استشارة واسعة شملت الأحزاب الممثلة في البرلمان، لتمنح المقترح عمقًا شعبيًا وسياسيًا جديدًا. وتحول النقاش حول تنزيل الحكم الذاتي إلى ورش وطني مفتوح؛ في الجامعات، ومراكز التفكير، وفي كبرى المدن الصحراوية، حيث يُعبّر المنتخبون والفاعلون المحليون عن رؤية مشتركة لمغرب يُعيد تعريف العلاقة بين المركز والجهات.

في الجهة المقابلة، تواصل البوليساريو رفع شعار الاستفتاء، رغم أن الأمم المتحدة نفسها أعلنت منذ 2003، على لسان جيمس بيكر، استحالة تنفيذه. ومنذ ذلك التاريخ، انتقل المجتمع الدولي إلى البحث عن حل سياسي واقعي، وجد جوابه في مبادرة الحكم الذاتي. ورغم ذلك، تظل قيادة البوليساريو تُمعن في لعب خارج الزمن وخارج الملعب السياسي المعتمد دوليًا، مستندة إلى خطاب فقد صلاحيته وإلى كرة “ثورية” لم تعد الأمم المتحدة تعترف بها.

ولا يمكن عزل مستقبل البوليساريو عن تجارب مشابهة في العالم، لعل أبرزها تخلي تنظيمات انفصالية أو متمردة عن السلاح وتحولها إلى أحزاب سياسية، من حزب العمال الكردستاني في تركيا، إلى القوات المسلحة الثورية في كولومبيا، وصولًا إلى الجيش الجمهوري الإيرلندي وجبهة مورو الإسلامية. كلها تنظيمات أنضجتها عقود من الصراع، قبل أن تصل إلى قناعة أنّ السياسة وحدها قادرة على منح شعوبها مستقبلًا.

مقارنة بهذه التجارب، تبدو حالة البوليساريو أكثر هشاشة؛ فهي لا تملك قاعدة اجتماعية صلبة، ولا مشروعًا سياسيًا مستقلًا، بل وُلدت داخل “أنبوب سياسي” صاغته الأجهزة الجزائرية. وتقديرات الخبراء تشير إلى أن أقل من ثلث سكان المخيمات ينحدرون فعلًا من الصحراء المغربية، فيما تمتلئ المنطقة بموريتانيين وماليين وجماعات انجذبت بفعل الحاجة أو بسبب شبكات التهريب والجماعات المسلحة المنتشرة في الساحل.

وهذا ما يفسر خوف قيادة الجبهة من لحظة “اختبار الهوية”، حين تجد نفسها مضطرة للاندماج داخل الأقاليم الجنوبية للمملكة، وسط أغلبية ساحقة من الصحراويين الذين بنوا مغربيتهم بالفعل، وبالعمل، وبالانتماء اليومي، وليس بالشعارات.

اليوم، يبدو أن ساعة الحقيقة قد دقت؛ قرار أممي يتقدم، ودينامية مغربية تتقوى، ومشهد دولي لا يحتمل نزاعات مفتعلة. والوهم الانفصالي لم يعد يملك قدرة مقاومة الضوء حين يشتد. وفي نهاية المطاف، لن تجد البوليساريو حضنًا أرحب ولا أكثر دفئًا من الوطن، لمن أراد أن يعيد اكتشاف نفسه، وأن يستنشق هواء الانتماء الحقيقي بعد نصف قرن من الضياع.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

This site is protected by wp-copyrightpro.com