آباؤنا الشهداء: رجال صدقوا العهد… وذووهم يدفعون ثمن الوفاء!

بوشعيب البازي

في رواية الوطن، هناك أبطال لا تكتب أسماءهم في الكتب، بل تُسجل على شواهد القبور، وفي قلوب أمهات وأبناء وأرامل ينتظرون تكريمًا لا يأتي، وحقوقًا تائهة في دهاليز الإدارات. هؤلاء هم آباؤنا الشهداء، الذين كتبوا بدمائهم قصة الصحراء المغربية… قصة وطن قاتل وحيدًا ضد جوقة من المدعومين بالأسلحة والسخاء البترودولاري، وخرج منتصرًا. لكن المفارقة أن من بقوا بعد هؤلاء الأبطال يعيشون هزيمة أخرى، هذه المرة على يد البيروقراطية والنسيان.

حين كانت البوليساريو تتلقى الدعم من نصف كوكب الأرض: سلاح من الجزائر، تدريب من كوبا، أموال من ليبيا، وشعارات من فنزويلا، كان المغرب يعتمد على رجال بسطاء، يحملون قلوبًا مملوءة بحب الوطن، وبنادق قديمة، وعزيمة لا تكلّ. كان الجيش المغربي يتقدم في الرمال، في الوقت الذي كان بعض المسؤولين “يتقدمون” في الرتب والمكاتب المكيفة.

لكن المعركة الحقيقية بدأت بعد وقف إطلاق النار سنة 1991، حين عاد الجنود الشجعان إلى بيوتهم، أو لم يعودوا أصلًا. آنذاك، اكتشف أبناء الشهداء أنهم، بدلًا من استلام وسام وطني، استلموا معاشًا لا يكفي لشراء معجون أسنان وكيس دقيق. واكتشفت الأرامل أن “تكريم الوطن” يأتي على هيئة 1000 درهم شهريًا، أي أقل من فواتير هاتف أحد البرلمانيين.

تخيلوا امرأة فقدت زوجها في ساحة الشرف، وأمضت بقية عمرها تتنقل بين دور الأم، والمدرس الخصوصي، وسائق الطاكسي، وموظف البريد… دون أن تسمع كلمة “شكرًا”، إلا في الخطب الرسمية. وفي النهاية، تأتيها رسالة من صندوق التقاعد: “نذكّركم أن معاش المتوفى قد تم صرفه… نشكركم على صبركم”.

الأدهى أن هؤلاء الأرامل، بعد سنوات من الصبر النبيل، يُطلب منهن تقديم شواهد وفاة من وزارة الدفاع، وإثبات أن أزواجهن لم يموتوا في حادث دراجة نارية، بل سقطوا وهم يدافعون عن العلم المغربي في الساقية الحمراء أو وادي الذهب.

ثم يأتي السؤال الكبير: أين هي توصيات جلالة الملك محمد السادس نصره الله، الذي شدد مرارًا على ضرورة العناية بذوي الشهداء؟ لماذا تُفرّغ النصوص من مضامينها في مكاتب المسؤولين، وتُترجم إلى “سير تلاح” في مكاتب الشؤون الاجتماعية؟

الحقيقة المُرّة أن الوطن لا يُقاس بالشعارات، بل بكيفية معاملة من ضحّى من أجله. والشهيد، مهما علت رتبته، لن يشفع له صمته إن لم يدافع عنه الأحياء. والعدالة ليست فقط في حدود الصحراء، بل أيضًا في بيوت الأرامل، ومدارس أبناء الشهداء، ومكاتب التشغيل التي ما زالت تطلب من ابن الشهيد “أن يقدم سيرته الذاتية كأي مواطن عادي”.

فهل هذا هو المقابل لمن صدقوا العهد؟ أن تعيش أرملته بما لا يكفي لكراء غرفة؟ أن يحرم أطفاله من الذكريات ومن حقهم في حياة كريمة؟ أن يصبح الاستشهاد قضية منسية في دفتر إداري تآكل حبره؟

رحم الله شهداءنا الأبرار، وجعل ذكراهم لعنة تطارد من خذل ذويهم، وعبرة تُعلّمنا أن الوطن لا يُبنى فقط بالدماء، بل أيضًا بالإنصاف.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

This site is protected by wp-copyrightpro.com