بلجيكا تُحبط مخططاً إرهابياً لاستهداف رئيس وزرائها بطائرات مسيّرة مفخخة

تحليل – بوشعيب البازي

في تطوّر أمني بالغ الخطورة يعيد إلى الأذهان أشباح الهجمات الإرهابية التي هزّت بلجيكا قبل سنوات، كشفت السلطات الفدرالية في بروكسل، يوم الخميس، عن إحباط مخطط معقّد كان يستهدف رئيس الوزراء البلجيكي بارت دي ويفر باستخدام طائرات مسيّرة مفخخة.

القضية، التي وُصفت بأنها “واحدة من أكبر العمليات الأمنية في السنوات الأخيرة”، تفتح باب التساؤل مجدداً حول طبيعة التهديدات الإرهابية الجديدة في أوروبا، وخاصة في ظل تحوّل أدوات التنفيذ من الهجمات التقليدية إلى استعمال التكنولوجيا الطائرة والمسيّرات منخفضة التكلفة.

مخطط معقّد ومستوحى من الفكر الجهادي

المدعية العامة الفدرالية، آن فرانسن، أكدت في مؤتمر صحفي أن العملية الأمنية جرت في مدينة أنتويرب، مسقط رأس دي ويفر، وأسفرت عن اعتقال ثلاثة مشتبه فيهم تتراوح أعمارهم بين 17 و24 عاماً.

وقالت إن “المشتبه بهم كانوا يعتزمون تنفيذ هجوم إرهابي مستوحى من الفكر الجهادي ضد شخصيات سياسية”، مشيرة إلى أن التحقيقات الأولية كشفت محاولتهم تطوير طائرة مسيّرة قادرة على حمل مواد متفجرة.

وأوضحت أن الشرطة الفدرالية عثرت، أثناء مداهمة أحد المنازل، على عبوة يدوية الصنع لم تكن جاهزة بعد للاستخدام، بالإضافة إلى حقيبة مليئة بكريات معدنية، وهي المواد التي تُستعمل عادة لزيادة قوة الانفجار. كما تم ضبط طابعة ثلاثية الأبعاد في منزل آخر، يُعتقد أنها كانت تُستخدم لتصنيع أجزاء من الطائرات المسيّرة.

ردود فعل رسمية غاضبة ومتعاطفة

وزير الخارجية البلجيكي ماكسيم بريفو وصف الخبر بأنه “صادم”، مؤكداً امتنانه للأجهزة الأمنية والقضاء الذين “تحرّكوا بسرعة لتفادي الأسوأ”. أما وزير الدفاع تيو فرانكن فعبّر عبر وسائل التواصل الاجتماعي عن تضامنه مع رئيس الوزراء، قائلاً: “بارت، نحن معك ومع عائلتك. شكراً لقوات الأمن التي أنقذت البلاد من كارثة”.

مصادر مقربة من رئيس الوزراء أكدت بدورها أنه كان بالفعل ضمن قائمة المستهدفين، وأن الاعتقالات تمت في محيط سكنه بأنتويرب. وتحدثت تقارير إعلامية عن مداهمة منزل يبعد مئات الأمتار فقط عن بيت دي ويفر، وهو ما يعزز فرضية أن الخلية كانت في مراحل متقدمة من التحضير.

طائرات مسيّرة: السلاح الصامت للإرهاب الجديد

التحقيقات البلجيكية تشير إلى أن المجموعة كانت تستلهم هجماتها من أفكار متطرفة تُروّج عبر الإنترنت، وتستفيد من الانتشار السريع لتقنيات الطباعة الثلاثية الأبعاد والطائرات المسيّرة التجارية.

هذا النمط من التهديد بات يُصنَّف ضمن “الإرهاب التكنولوجي”، حيث يستطيع أفراد أو خلايا صغيرة تنفيذ هجمات مميتة دون الحاجة إلى موارد كبيرة أو شبكات لوجستية واسعة.

ويحذر خبراء الأمن الأوروبيون منذ سنوات من استخدام الطائرات بدون طيار في عمليات إرهابية، خصوصاً بعد أن استعملتها جماعات مسلحة في مناطق النزاع بالشرق الأوسط، سواء لتصوير الأهداف أو لتنفيذ هجمات دقيقة عبر المتفجرات.

بلجيكا والذاكرة الدامية للإرهاب

تعيد هذه القضية إلى الأذهان سلسلة الهجمات التي ضربت بلجيكا خلال العقد الماضي، أبرزها تفجيرا مطار بروكسل الدولي ومحطة مترو مالبيك في مارس 2016، واللذان خلّفا عشرات القتلى والجرحى وتبنّاهما تنظيم “داعش”.

كما شهدت البلاد هجمات متفرقة في الأعوام اللاحقة، بينها هجوم بسكين على جنود في 2017، واعتداء مسلح في لييج عام 2018 أوقع ثلاث ضحايا.

تلك الأحداث جعلت بلجيكا من أكثر الدول الأوروبية تشدداً في متابعة الملفات الإرهابية، حيث أطلقت السلطات منظومة مراقبة دقيقة شملت تتبع الأنشطة الرقمية والتعاون الأمني مع أجهزة أوروبية ودولية.

تحول في طبيعة التهديدات

يلاحظ المتخصصون في الشأن الأمني أن طبيعة الإرهاب في أوروبا تمر بمرحلة “تحوّل صامت”:

لم تعد الخلايا الكبيرة المنظمة هي التهديد الأكبر، بل الأفراد أو المجموعات الصغيرة التي تت radicalisent عبر الإنترنت وتستفيد من أدوات بسيطة لتنفيذ هجمات معقدة من الناحية التقنية.

التحول الآخر يتمثل في نقل الإرهاب من الشارع العام إلى المجال الجوي المنخفض، أي إلى “سماء المدن” التي يصعب السيطرة عليها بالكامل، في ظل انتشار آلاف الطائرات المدنية الصغيرة المملوكة لهواة أو شركات تصوير.

إنذار مبكر وحصانة ديمقراطية

ما يميز التجربة البلجيكية هو أن أجهزة الأمن استطاعت تفكيك الخلية قبل أن تنفذ أي عمل فعلي، وهو ما يعكس نجاعة المنظومة الاستخباراتية بعد سنوات من الإصلاحات. ومع ذلك، فإن القضية تطرح سؤالاً مقلقاً حول هشاشة الديمقراطيات الغربية أمام الإرهاب الفردي المتحوّر الذي لا يحتاج سوى إلى فكرة متطرفة وطائرة من متجر إلكتروني.

برغم التهديد، لم تُسجل في بلجيكا أي حالة هلع شعبي. فالبلاد التي دفعت ثمناً باهظاً في 2016 تعلم أن الخطر لا يواجه بالصراخ، بل بالمزيد من الصرامة الأمنية واليقظة المؤسسية.

بين الخطر واليقظة

إحباط مخطط استهداف رئيس الوزراء البلجيكي يذكّر أوروبا بأن الإرهاب لا يختفي، بل يتكيّف. وأن التكنولوجيا، التي كانت رمزاً للتقدم، قد تتحول في لحظة إلى أداة دمار إن لم تُواكبها سياسات أمنية ذكية وقوانين استباقية.

في النهاية، تبقى بلجيكا اليوم أمام اختبار مزدوج: الحفاظ على أمنها دون المسّ بجوهر حريتها، ومواجهة العنف المتطرف دون الوقوع في فخ الخوف الجماعي. وهي معادلة صعبة، لكنها جوهر ما يُسمّى في الفكر السياسي الأوروبي بـ “المقاومة الديمقراطية”.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

This site is protected by wp-copyrightpro.com