في مشهد يعيد رسم الخريطة الدبلوماسية للشرق الأوسط، أعلن المغرب وسوريا عن استئناف علاقاتهما الدبلوماسية بشكل كامل، بعد قطيعة دامت أكثر من 12 سنة. وجاء هذا التقارب التاريخي إثر انهيار نظام بشار الأسد، ووصول فاروق الشرع، نائب الرئيس السابق، إلى سدة الحكم في دمشق، ضمن مرحلة انتقالية وصفت بـ”العقلانية” و”المتزنة”، لطي صفحة سنوات من الحرب والتطرف والتجاذبات الإقليمية.
وقد توّج هذا التقارب بقرار الرباط إعادة فتح سفارتها في دمشق في يونيو 2025، بعد أن كانت قد أُغلقت سنة 2012 احتجاجًا على القمع الدموي للاحتجاجات الشعبية آنذاك. في الوقت نفسه، أعلنت السلطات السورية الجديدة عن إغلاق مكتب جبهة البوليساريو في دمشق، وطرد ممثليها، في خطوة اعتبرتها الرباط “انتصارًا للشرعية التاريخية والاعتراف بالوحدة الترابية المغربية”.
دبلوماسية ما بعد الأسد: براغماتية من أجل الاستقرار
شكلت المرحلة الجديدة في سوريا، بقيادة فاروق الشرع، منعطفًا مهمًا في السياسة الخارجية السورية، تميل إلى التهدئة والانفتاح وإعادة التوازن إلى العلاقات مع المحيط العربي والإسلامي. وبحسب مصادر دبلوماسية، فإن القيادة السورية المؤقتة أعادت تقييم تحالفاتها السابقة، وعلى رأسها العلاقات مع إيران وحزب الله وجبهة البوليساريو، في محاولة لتصحيح مسار السياسة الخارجية السورية بعد سنوات من العزلة الدولية.
الرباط، من جهتها، تعاملت بمرونة استراتيجية مع التحولات في دمشق، فلطالما أكدت على “ثوابت الأمة ووحدة مصير شعوبها”، كما حافظت على خطوط تواصل غير معلنة مع شخصيات سورية معارضة للأسد، بمن فيهم الشرع نفسه، الذي تربطه علاقات قديمة بعدد من القادة العرب، وعلى رأسهم الملك الراحل الحسن الثاني.
طرد البوليساريو: نهاية تحالف غير مبرر
تُعدّ خطوة إغلاق مكتب جبهة البوليساريو في دمشق، وطرد عناصرها، بمثابة تصحيح لمسار ظل لسنوات مصدر توتر بين البلدين. فمنذ الثمانينيات، سمحت دمشق بوجود تمثيل لجبهة البوليساريو على أراضيها، بدافع الاصطفاف مع أطروحات “تحررية” كانت تندرج ضمن سردية “محور المقاومة”، غير أن هذه المقاربة أصبحت متجاوزة اليوم، في ضوء المتغيرات الجيوسياسية في المنطقة، وصعود خطاب الواقعية السياسية بدل الإيديولوجيا.
كما أن الحضور المتنامي للمغرب في القارة الإفريقية، ونجاحه في كسب دعم متزايد في الأمم المتحدة لمقترح الحكم الذاتي في الصحراء، جعلا من أي دعم لجبهة البوليساريو خيارًا عبثيًا مكلفًا سياسيًا واقتصاديًا.
“الرباط تفتح نافذة دمشق لمراقبة طهران”
في تعليق تحليلي على هذا التقارب المفاجئ، يرى الكاتب الصحفي المغربي بوشعيب البازي أن “عودة العلاقات المغربية السورية ليست فقط إجراءً دبلوماسيًا، بل قراءة دقيقة لتوازنات شرق المتوسط، ومقدمة لإعادة تموضع ذكي للمغرب في الرقعة الشامية، حيث تتقاطع مصالح القوى الإقليمية الكبرى”.
ويضيف البازي أن “الرباط تفتح سفارتها في دمشق، ليس فقط لتصحيح مسار العلاقات الثنائية، بل أيضًا لتضع قدمًا استراتيجية في محيط جغرافي معقد، تتداخل فيه حسابات إيران وتركيا وروسيا وإسرائيل. فالمغرب، بحكم خبرته الطويلة في إدارة التوازنات، يعلم جيدًا أن من يراقب دمشق يقرأ مستقبل بغداد، ومن يراقب طهران من دمشق يفهم المزاج الجيوسياسي القادم في الخليج.”
ما بعد 2025: هل تصبح سوريا حليفًا للمغرب في المحافل الدولية؟
في ظل التغيرات المتسارعة في الشرق الأوسط، يبقى السؤال مطروحًا، هل نحن أمام تحالف مغربي سوري جديد يتجاوز تصفية الخلافات الدبلوماسية ليصل إلى مستويات التنسيق السياسي والأمني في ملفات إقليمية كبرى مثل فلسطين، ولبنان، والعلاقات مع تركيا وإيران؟
إنّ طرد البوليساريو من دمشق لم يكن مجرد رسالة إلى الرباط، بل إشارة إلى الأمم المتحدة أيضًا، بأن سوريا – العضو المؤسس للجامعة العربية – لن تكون جزءًا من تحالفات تزعزع استقرار الدول الأعضاء، في ظل عودة منطق السيادة ووحدة التراب الوطني إلى الواجهة.
التقارب المغربي السوري بعد 12 سنة من الجفاء ليس مجرد خطوة دبلوماسية بروتوكولية، بل هو عنوان لمرحلة جديدة من “البراغماتية الذكية” في العالم العربي، حيث يُعاد تعريف الحلفاء والخصوم وفق خرائط جديدة، تتحرك فيها المصالح أكثر من الشعارات. وبين الرباط ودمشق، طريق طويل من التاريخ المشترك، يمكن أن يُعاد ترميمه على أسس المصالح المتبادلة، واحترام الثوابت الوطنية، لا على شعارات تصدير الثورات أو شراء الولاءات.