إن الوطن غفور رحيم”.. خطاب العفو الملكي بين الحكمة السياسية والحنكة الدبلوماسية
بوشعيب البازي
في نوفمبر من عام 1996، وقف الملك الراحل الحسن الثاني أمام الشعب المغربي بمناسبة ذكرى المسيرة الخضراء، ليلقي خطاباً تاريخياً لا تزال أصداؤه تتردد في وجدان المغاربة وصنّاع القرار الإقليمي والدولي. من بين العبارات الخالدة التي وردت في ذلك الخطاب، برزت جملة ، “إن الوطن غفور رحيم”، لتشكل منعطفاً دلالياً وسياسياً في معالجة ملف النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية.
هذه العبارة الموجزة، لم تكن مجرد تعبير عاطفي أو مجاز أدبي، بل حملت أبعاداً سياسية عميقة، واستحضرت من خلالها الدولة المغربية تقاليدها العريقة في التسامح والانفتاح، وأكدت على نهجها السيادي الثابت الذي لا يُساوم على وحدة الوطن، ولا يُغلق أبواب العودة في وجه أبنائه “المغرر بهم”.
لقاء سياسي بمضامين إنسانية
في ذلك الخطاب، كشف الملك الراحل عن تفاصيل لقاء جمع بين وفد من جبهة البوليساريو ومسؤولين مغاربة، مشدداً على أن القبول بهذا الحوار جاء بناءً على طلب الجبهة، وبدافع احترام المغرب لتقاليده في احتضان أبنائه مهما بلغت درجة الخلاف. وأوضح الملك أن الجلوس معهم لا يعني تفريطاً في الحقوق، وإنما محاولة لإقناعهم بالرجوع عن “غيّهم”، مؤكداً أن الاستقلال والانفصال ليسا موضوعاً مطروحاً على طاولة المذاكرة.
هذا الموقف لم يكن لحظة ظرفية، بل شكل الأساس الذي ستبنى عليه السياسة المغربية في تدبير هذا الملف لعقود لاحقة. فالمغرب لا يرفض الحوار، لكنه يحدد إطاره السيادي بوضوح، وهو ما تجسده مبادرة الحكم الذاتي التي قدمها الملك محمد السادس سنة 2007 كحل واقعي وعملي يحفظ كرامة الصحراويين في إطار السيادة الوطنية.
المفاوضات: سياسة الانفتاح دون تنازل
في هذا السياق، مثّل اللقاء الثاني في الرباط، الذي ترأسه آنذاك ولي العهد الأمير سيدي محمد (الملك محمد السادس حالياً)، مؤشراً واضحاً على نضج الرؤية المغربية، واستعدادها للاستماع وتقييم مدى استقلالية قادة البوليساريو عن القرار الجزائري. غير أن اللقاء لم يفضِ إلى نتائج ملموسة، شأنه شأن لقاءات سابقة، بسبب تعنّت الجبهة وغياب إرادة حقيقية في إنهاء النزاع.
لكن رغم الإخفاق، ظل المغرب وفياً لنهجه، إذ قال الحسن الثاني ، “اتفقنا على أن الباب سيبقى مفتوحاً أمامهم حينما تنضج الأمور… وسوف تكون مسيرة أخرى… مسيرة إقناع حتى يقتنعوا”. إنها سياسة اليد الممدودة، لكن دون التفريط في الثوابت الوطنية.
سقوط مشروع الانفصال.. واقع لا يمكن تجاهله
خلال السنوات الماضية، تراجعت أطروحة الانفصال على جميع المستويات. داخل مخيمات تندوف، تتفاقم الأزمات الأمنية والحقوقية والإنسانية، وسط حالة من الانفصال التام بين القيادة الانفصالية والواقع الميداني. وقد أشار العديد من المسؤولين الأمميين، من بينهم إريك جانسن، إلى خطورة هذا الوضع، محذرين من أن اليأس في صفوف شباب المخيمات قد يدفعهم نحو التطرف والإرهاب.
بل إن الأمر تجاوز التنظير، حيث تقدم السيناتور الأميركي جو ويلسون بمشروع قانون لتصنيف جبهة البوليساريو كـ”منظمة إرهابية”، في ظل معطيات تشير إلى ضلوع عناصر من الجبهة في أنشطة مهددة للأمن الإقليمي، في تواطؤ ضمني مع الجماعات المسلحة في منطقة الساحل.
دبلوماسية الحسم والتأييد الدولي المتصاعد
في المقابل، واصلت المملكة المغربية تعزيز موقعها دولياً، حيث حظيت مبادرة الحكم الذاتي بدعم دولي واسع، تُوِّج بافتتاح قنصليات عامة لعدد من الدول المؤثرة في الأقاليم الجنوبية، واعتراف قوى كبرى مثل الولايات المتحدة وفرنسا وإسبانيا وألمانيا بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية.
فشل جهود الوساطة، خاصة من طرف المبعوث الأميركي السابق جيمس بيكر، أكدت بما لا يدع مجالاً للشك أن كل مخطط يتجاوز سيادة المغرب مصيره السقوط. وقد أقر بذلك إريك جانسن صراحة، موضحاً أن بيكر فشل لأن مقترحاته لم تراعِ الخط الأحمر المغربي ، الوحدة الترابية.
اليد الممدودة لا تزال قائمة
ورغم كل المؤشرات التي تؤكد اهتراء المشروع الانفصالي، فإن القيادة الانفصالية لا تزال عاجزة عن إجراء مراجعة ذاتية حقيقية. بل على العكس، تواصل استفزازاتها من خلال محاولات قصف عشوائية تستهدف المدنيين في مدن جنوبية كمثل مدينة السمارة، وهي أفعال لا يمكن وصفها سوى بأنها أعمال إرهابية ترتكب على مرأى ومسمع من السلطات الجزائرية، التي تحتضن هذه الجماعة على أراضيها وتوفر لها غطاءً سياسياً وعسكرياً.
العبارة التي قالها الملك الراحل الحسن الثاني، “إن الوطن غفور رحيم”، ليست مجرد تعبير عن عاطفة ملك، بل تختزل فلسفة دولة، وتوجه أمة. هي دعوة صادقة للعودة إلى حضن الوطن، لكنها أيضاً تحذير ضمني بأن التاريخ لا يرحم من اختار أن يقف في الاتجاه المعاكس لوحدة البلاد ومصالح شعبها.
لقد اختار المغرب طريق السلام والحكمة، لكنه لا يساوم في سيادته، ولا يهاب طاولة التفاوض، ولا يغلق أبوابه في وجه من يريد العودة بصدق. وهذا ما يجعل قضيته تحصد يوماً بعد يوم المزيد من الدعم والاعتراف، لأن الحق إذا دعمته الحكمة، انتصر.